خطبة بعنوان: استثمار الطاقات المعطلة وأثره في نهضة الأمة بين الواقع والمأمول، للدكتور خالد بدير
خطبة بعنوان: استثمار الطاقات المعطلة وأثره في نهضة الأمة بين الواقع والمأمول
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: حث الإسلام على استثمار الطاقات المعطلة
العنصر الثاني: تنوع القدرات والمواهب والطاقات وأثره في التكامل
العنصر الثالث: استثمار الطاقات المعطلة بين الواقع والمأمول
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: حث الإسلام على استثمار الطاقات المعطلة
لقد حث الإسلام على السعي واستثمار الطاقات والكسب من أجل الرزق؛ قال تعالي: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }( الملك: 15)؛ ويقرر الإسلام أن الطاقات المعطلة بدون عمل واستثمار هي عقيم كحياة شجر بلا ثمر، فهي حياة تثير المقت الكبير لدي واهب الحياة الذي يريدها خصبة منتجة كثيرة الثمرات.
فالإسلام لا يعرف سناً للتقاعد، بل يجب على المسلم أن يكون وحدة إنتاجية طالماً هو على قيد الحياة، ما دام قادراً على العمل، بل إن قيام الساعة لا ينبغي أن يحول بينه وبين القيام بعمل منتج، وفي ذلك يدفعنا النبي صلى الله عليه وسلم دفعاً إلى حقل العمل واستثمار الطاقات وعدم الركود والكسل فيقول: ” إِذا قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا فله بذلك أجر.” [ السلسلة الصحيحة – الألباني ]، كما حث الإسلام على اتخاذ المهنة للكسب مهما كانت دنيئة فهي خير من المسألة وتعطيل الطاقات، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ فَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ” (الترمذي وحسنه)
وقد ضرب لنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أروع الأمثلة في تشغيل الطاقات المعطلة التي تربت على الكسل والتواكل والاعتماد على صدقات المحسنين؛ فقد دخل المسجد ذات يومٍ وإذا مجموعة في الضحى، والناس في المزارع يشتغلون، والأنصار العُبَّاد الذين قدموا أنفسهم في بدر وحنين يسقون النخل، وهذا يجر الدلو من البئر ويصب، وهذا نجار، وهذا خشَّاب، وهذا يبيع السمن، وهذا يبيع العسل، وهذا يبيع الغنم، وعمر بنفسه يبيع ويشتري في السوق، إلا هذه المجموعة في المسجد!! قال عمر: من أنتم؟ قالوا: عُبَّاد. قال: سبحان الله! -كأن عمر ليس بعابد؛ لأنه جاء من خارج المسجد!- قال: فمن يأتي لكم بطعامكم؟ قالوا: جيرانٌ لنا ؛ أي أنهم يبقون في المسجد وقت الغداء، فإذا حانت الساعة الثانية أتى الأكل؛ انظروا العبادة كيف تكون؟!! قال عمر: انتظروا قليلاً . ظنوا أنه على العادة أنه سيأتي بأكلٍ لهم؛ فذهب فأتى بالدرة؛ وتعرفون ما درة عمر؟! فأخذ الدرة، وأغلق أبواب المسجد وأتى يضربهم ضرباً حتى يبطحهم فلما أدماهم، قال: اخرجوا إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، فأخرجهم من المسجد، وأغلق أبواب المسجد؛ وبهذا استطاع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تشغيل واستثمار الطاقات المعطلة وجعلها وحدة إنتاجية في المجتمع.
لذلك كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يهتم بالعمل والاستثمار والترغيب فيه فيقول: ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلىَّ من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري، وكان كلما مر برجل جالس في الشارع أمام بيته لا عمل له أخذه وضربه بالدرة وساقه إلى العمل والاستثمار؛ وهو يقول: إن الله يكره الرجل الفارغ لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة. وقال رضي الله عنه: “مكسبةُ في دناءة خيرٌ من سؤال الناس.” ، وعنه رضي الله عنه قال:” إن الله خلق الأيدي لتعمل فإن لم تجد في الطاعة عملا وجدت في المعصية أعمالا “.وروي أن الأوزاعى لقي إبراهيم بن أدهم رحمه الله وعلي عنقه حزمة حطب، فقال له: يا أبا إسحاق إلى متى هذا ؟! إخوانك يكفونك ، فقال : دعنى عن هذا يا أبا عمرو ، فإنه بلغني أنه من وقف موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة. وقال أبو سليمان الدارني: ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يقوت لك ؟ ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد “(إحياء علوم الدين – الإمام أبو حامد الغزالي)
عباد الله: إن القلب ليحزن حينما يري الشباب وهم في أعز قواهم العقلية والجسدية – بما وهبهم الله من مواهب وقدرات وطاقات – ومع ذلك يفني الشباب قوته وشبابه في الفراغ وفي كل ما حرم الله تبارك وتعالي من ملاهٍ ومشارب وخمور ومجون وغير ذلك؛ ولو لم يكن الإنسان في حاجة إلى العمل، لا هو ولا أسرته، لكان عليه أن يعمل للمجتمع الذي يعيش فيه فإن المجتمع يعطيه، فلابد أن يأخذ منه على قدر ما عنده. يُروى أن رجلاً مر على أبي الدرداء الصحابي الزاهد – رضي الله عنه- فوجده يغرس جوزة، وهو في شيخوخته وهرمه، فقال له: أتغرس هذه الجوزة وأنت شيخ كبير، وهي لا تثمر إلا بعد كذا وكذا عاماً ؟! فقال أبو الدرداء: وما عليَّ أن يكون لي أجرها ويأكل منها غيري!! وأكثر من ذلك أن المسلم لا يعمل لنفع المجتمع الإنساني فحسب، بل يعمل لنفع الأحياء، حتى الحيوان والطير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:” مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ”[البخاري]، وبذلك يعم الرخاء البلاد والعباد والطيور والدواب.
أحبتى في الله: أسوق لكم قصة جميلة عن سلفنا الصالح في استثمار الطاقات المعطلة وعدم الكسل والركود والاعتماد على صدقات المحسنين: يروى أن شقيقاً البلخي، ذهب في رحلة تجارية، وقبل سفره ودع صديقه إبراهيم بن أدهم حيث يتوقع أن يمكث في رحلته مدة طويلة، ولكن لم يمض إلا أيام قليلة حتى عاد شقيق ورآه إبراهيم في المسجد، فقال له متعجباً: ما الذي عجّل بعودتك؟ قال شقيق: رأيت في سفري عجباً، فعدلت عن الرحلة، قال إبراهيم: خيراً ماذا رأيت؟ قال شقيق: أويت إلى مكان خرب لأستريح فيه، فوجدت به طائراً كسيحاً أعمى، وعجبت وقلت في نفسي: كيف يعيش هذا الطائر في هذا المكان النائي، وهو لا يبصر ولا يتحرك؟ ولم ألبث إلا قليلاً حتى أقبل طائر آخر يحمل له العظام في اليوم مرات حتى يكتفي، فقلت: إن الذي رزق هذا الطائر في هذا المكان قادر على أن يرزقني، وعدت من ساعتي، فقال إبراهيم: عجباً لك يا شقيق، ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى الكسيح الذي يعيش على معونة غيره، ولم ترض أن تكون الطائر الآخر الذي يسعى على نفسه وعلى غيره من العميان والمقعدين؟ أما علمت أن اليد العليا خير من اليد السفلى؟ فقام شقيق إلى إبراهيم وقبّل يده، وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق، وعاد إلى تجارته.
هؤلاء فهموا الإسلام، عملاً وتعباً، وإعمالاً للطاقات المعطلة والمواهب والقدرات؛ لم يفهموا الإسلام تقاعساً ولا كسلاً ولا تعطيلاً للطاقات، وذلك لأن الإسلام رفع من شأن صاحب اليد العليا، ولا يريد لأتباعه أن يكونوا عالة على غيرهم.
العنصر الثاني: تنوع القدرات والمواهب والطاقات وأثره في التكامل
إن الله تعالى أودع في كل إنسان مواهب وقدرات وطاقات معينة، ولم يجعلها في فرد واحد أو أفراد معينين، بل توزعت هذه القدرات والطاقات على جميع الأفراد، وذلك حتى يكمل بعضهم بعضا في جميع التخصصات الموجودة في المجتمع، وقد قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا }[الزخرف: 32] “قال السدي وغيره: ليسخر بعضهم بعضا في الأعمال، لاحتياج هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا ” (تفسير ابن كثير)؛ فالناس فيه ليسوا على نسق واحد في العلم والمستوى المعيشي والطاقات والمواهب والقدرات، ومن عوامل نجاح المنظومة الاقتصادية والاجتماعية؛ توظيف الطاقات والمواهب ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب مع مراعة التخصص الدقيق؛ وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: ” اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ” ( البخاري ومسلم) ؛ وفي رواية لمسلم:” كُلُّ عَامِلٍ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ ” وبذلك تستقيم القلوب والأبدان؛ ويعلو البنيان؛ وترتفع الأركان؛ ونسعد برضا الرحمن!!
ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر للصحابة في قضية تأبير النخل لما علم خبرتهم وكفاءتهم في ذلك؛ فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ. فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ. قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا؛ فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: مَا لِنَخْلِكُمْ؟! قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ” ( مسلم ) ” فبين بهذا أن الأنبياء وإن كانوا أحذق الناس في أمر الوحي والدعاء إلى الله تعالى؛ فهم أسرج الناس قلوبا من جهة أحوال الدنيا “( فيض القدير للشوكاني)
إن أطفالنا وشبابنا لديهم مواهب وقدرات متميزة ؛ ولابد من توجيه هذه المواهب واستخدامها استخداما صحيحا ؛ وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته الكرام؛ حيث يوجد لكل واحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ميزة وخصيصة برز فيها هو وطائفة معه, وقد لا توجد في فرد أو أفراد آخرين:
فمعاذ بن جبل ؛ وعبد الله بن مسعود ؛ وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم كانوا يهتمون بالعلم.
وزيد بن ثابت وهو صبي برع في تعلم اللغات الأخرى لحاجة المجتمع لها ؛ فعَنْ زيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنا ابن إحدى عشرة سنة. فأَمَرَنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي. قَالَ: فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ. قَالَ: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ»( رواه أبو داود والترمذي)
وهذا عبدالله بن زيد لما رأى رؤيا الأذان في منامه أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره بما رأى فقال له صلى الله عليه وسلم: ” إنها لرؤيا حق إن شاء الله؛ فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتا منك ” قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به. قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” فلله الحمد”(أبوداود وأحمد وابن ماجة)؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم وظَّف المواهب والطاقات وقدم الكفاءة في حسن الصوت ومنفعة المسلمين؛ ولم يعطها عبدالله مع أنه هو الذي رأى الرؤيا وهو أحق بها؛ ولكنه تقديمٌ للكفاءات واستثمارٌ للمواهب والطاقات؛ وهكذا ينبغي أن يراعى ذلك في اختيار جميع العاملين بالدولة كلٌ حسب تخصصه ومواهبه وطاقاته حتى تسير السفينة.
أما خالد بن الوليد: فلم يشتهر بحمل العلم والفقه بمثل ما اشتهر به معاذ, أو ابن مسعود, أو غيرهم من فقهاء الصحابة, وإنما اشتهر خالد بإتقان فنون الحرب والفروسية, حتى أصبح يجد لذته وسعادته وقرة عينه في معاناة هذا اللون من الجهاد الذي يشق على كثير من النفوس؛ ولذلك كان رضى الله عنه يقول: “ما ليلة تهدي إلي فيها عروس أنا لها محب, أو أبشر فيها بغلام بأحب إليَّ من ليلة شديدة الجليد أصبّح فيها العدو في سرية من المهاجرين”؛ فانظر إلى خالد يجد من اللذة في هذا الجو الشديد البرودة المخيف ما لا يجده في ليلة تهدي إليه فيها عروس, أو يبشر فيها بغلام.
وهذا أبو ذر الغفاري رضى الله عنه: لم يعرف عنه مزيد عناية بالعلم أكثر من غيره, ولا مزيد اهتمام بشأن الجهاد أكثر من غيره, و إنما عرف بالزهد والورع, والحث على التقلل من الدنيا, والتزود للآخرة … وتجد من الصحابة غير هؤلاء لهم اهتمامات أخرى غير ما سبق .
وهذه المزايا التي تنفرد بالتميز بها طائفة عن أخرى راجعة إلى خصائص موجودة في أصل التركيب, وأصل الفطرة عند هؤلاء القوم, فخالد: جبل على الشجاعة, وابن مسعود: منح من قوة الذاكرة, وقوة الاستنباط, والجلد في طلب العلم ما ليس عند غيره … وهكذا .
وعلى أساس المواهب والقدرات والطاقات صنف الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة حسب تخصصاتهم ومواهبهم واتجاهاتهم وقدراتهم وكفاءاتهم وطاقاتهم في كل مجالات الحياة. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ قَالَ : أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهُ عُمَرُ ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ ، وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا ، وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ.” (سنن ابن ماجة) ؛ وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته صلى الله عليه وسلم في تقديم المواهب والكفاءات والطاقات كلٌ في تخصصه، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب وتقديم الكفاءات مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخراً .
إن المجتمع الآن بحاجة إلى مجموعة من الكفاءات المتفاوتة, وأي مجتمع بحاجة إلى القادة, والزعماء, وبحاجة إلى الأطباء, والعلماء, والمهندسين, وإلى الخبراء في كافة مجالات الحياة, بل وبحاجة إلى الخدم وإلى غيرهم من أصحاب الحرف والمهن العادية بل والوضيعة في نظر الناس, وبمجموع هذه الأشياء يتكون المجتمع ويتكامل, وهذه الحقيقة يجب أن لا تغيب عنا.
ويؤكد تفاوت القدرات والمواهب عند الأطفال والشباب وكيفية استغلالها الإمام ابن القيم – رحمه الله – في كتابه أحكام المولود وهو يتحدث عن الأطفال والصبيان وتعليمهم فيقول: ومما ينبغي أن يعتمد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال، ومهيء له منها مما كان مأذوناً فيه شرعاً، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره؛ أي: أن المربي يجب أن يتأمل حال المربِّى، وما هو مهيء له بأصل الخلقة والجبلة والطبيعة، فيوجهه إلى ذلك، ولا يحمله على غيره.
فإنه إن حمل على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيء له، فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيد الحفظ واعياً؛ فهذه من علامات قبوله وتهيئه للعلم، وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم، ولم يخلق له، مكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يخلق له ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، ورآه مستعداً لها، قابلاً لها، وهى صناعة مباحة نافعة للناس، فليمكنه منها، وهذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه.” أ.هـ
فـابن القيم -رحمه الله- أشار إلى القدر الذي لا بد منه لكل إنسان؛ وهو تعليمه ما يحتاج إليه في دينه؛ ثم أشار بعد ذلك إلى أن الأولى بالإنسان أن ينظر سواء في نفسه، أو في من يربي، فيما هو مستعد له فطرة وخلقة، فيوجهه إلى ذلك، فإنه إن وجهه إلى غيره، لم يفلح فيما وجه إليه، وخسر الشيء الذي كان مستعداً إليه أصلاً، لأنه لم يشتغل به.
إننا إذا بنينا الأسرة على هذا الأساس القويم شمخ البنيان، ونجحنا في تقويم الأولاد، فنحن نكون قد حصلنا على أسرة صالحة، ومن مجموع الأسر نحصل على مجتمع فاضل تسوده المحبة، ويكثر بينهم التعاون والتناصح والتآلف والتكاتف والتكامل.
أيها المسلمون: إن كل أب ترك الحبل على الغارب، وكل أم أهملت بناتها فستكون الثمرة حسب هذا الإهمال، فاللهَ اللهَ يا أولياء الأمور، احفظوا أولادكم من كل ما يؤثر على عقولهم وأخلاقهم من فضائيات وقرناء سوء، ووظفوا مواهبهم وطاقاتهم فيما ينفع البلاد والعباد؛ فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل؛ فأشغلوهم في أوقات الفراغ بما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم؛ واعلموا أنكم مسئولون عن أسركم وأولادكم يوم القيامة؛ وبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:” كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ” ( متفق عليه)
العنصر الثالث: استثمار الطاقات المعطلة بين الواقع والمأمول
أحبتي في الله: هناك مثلٌ شعبيٌّ يقول: ( اعطني شَبَكَةً ولا تعطني سَمَكَةً )؛ ولو نزلنا على أرض الواقع لوجدنا أن هذا المثل واقعي وفعالٌ وله دورٌ كبيرٌ في استثمار الطاقات وخلق فرصٍ كبيرةٍ للشباب ؛ فهذه رسالة أوجهها إلى القائمين على المؤسسات والجمعيات الخيرية ودور اليتامى وغيرها من الجهات المعنية بكفالة المحتاجين والمعوزين؛ فبدلا من أن تعطي الشاب أو الفتاة أو الأسرة مبلغا كل شهر ويكونون عالة عليك وعلى المجتمع؛ فيمكن أن توفر لكل فرد آلة أو جهازاً أو تعلمه مهنة تدر له دخلا؛ أو يعمل في مالٍ بالشركة أو المضاربة لصالح بيت المسلمين؛ ويكون أداة إنتاج واستثمار لا أداة استهلاك؛ وبذلك يتم استثمار المواهب والقدرات والطاقات المعطلة؛ وقد تمت هذه التجربة في مواقع متعددة وأبدت نتائج إيجابية فعالة مما يؤدي إلى دفع عجلة الإنتاج واستثمار الطاقات المعطلة والحد من البطالة في المجتمع؛ وقد فعلنا ذلك قدوةً بنبينا صلى الله عليه وسلم حينما دفع الأعرابي إلى سوق العمل وأصبح أداة إنتاج واستثمار لا استهلاك !!! فعن أنس: أن رجلاً من الأنصارِ أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم يسألُه، فقال: «أما في بيتك شيءٌ؟» قال: بلى، حِلسٌ نلبسُ بعضَه، ونبسُط بعضَه، وقَعبٌ نَشربُ فيه الماءَ، قال: «ائتني بهما»، قالَ: فأتاه بهما، فأخذَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيده، وقالَ: «من يشتري هذين؟» قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمٍ، قالَ: «من يزيدُ على درهمٍ؟» -مرتينِ أو ثلاثاً-، قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقالَ: «اشتر بأحدهما طعاماً فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخرِ قَدوماً فأتني به»، فأتاه به، فشدَّ فيه صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قالَ: «اذهب فاحتطِب وبع، ولا أرينَّكَ خمسةَ عشرَ يوماً»، فذهبَ الرجلُ يَحتطبُ ويبيعُ، فجاءَ وقد أصابَ عشرةَ دراهمٍ، فاشترى ببعضِها ثوباً وببعضِها طعاماً، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا خيرٌ لك من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهكَ يومَ القيامةِ، إن المسألةَ لا تصلحُ إلا لثلاثةٍ، لذي فقرٍ مُدقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مُفظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجعٍ» (رواه أبو داودَ والترمذيِّ وحسنَّه). فالرسول صلى الله عليه وسلم لقن هذا الرجل درساً لا ينساه ، وبهذا سد الرسول صلى الله عليه وسلم باباً من أبواب الكسل والتواكل وتعطيل الطاقات، فلو أن الرسول أعطاه من الصدقة لفتح بذلك الباب على مصراعيه للكسالى والمتواكلين والعاطلين، ولأصبحت هذه مهنتهم كما هي مهنة الكثيرين في هذا العصر، وما يرى – من أمثال هؤلاء – في الموصلات والشوارع والطرقات لأقوى دليل على ذلك، لهذا كله حرم الإسلام البطالة والكسل والركود وعدم استثمار واستغلال المواهب والطاقات لأن ذلك يؤدي إلى الانحطاط في جميع مجالات الحياة، وإلى هبوط الإنتاج، وتخلف الأمة، وانتشار الفوضي، وكثرة المتواكلين، إضافة إلى المذاق الغير الطبيعي للقمة العيش وخاصة إذا حصل عليها الكسول من عرق جبين غيره، فينبغي على الفرد أن يعمل ليأكل من كسب يده لأنه أفضل أنواع الكسب، فقد أخرج البخاري عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ما أكل أحدٌ طعامًا قطّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده”( البخاري)؛ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ فَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ” (الترمذي وحسنه)
أيها المسلمون: هذه فكرة ورسالة وتجربة عملية ناجحة أنادي بها كل أصحاب المؤسسات الخيرية والجمعيات وأرباب الأموال والتجارات ورجال الأعمال؛ لو طبقناها عملياً على أرض الواقع؛ فلا شك أننا نعيش في تقدم ورخاء ونماء وازدهار!!!
إذن فالإسلام قد حث على استثمار الطاقات والكسب والاحتراف ، وأن الأمة الإسلامية غنية بما وهبها الله من موارد وطاقات وأن هذه الموارد وتلك الطاقات ، لو استغلت استغلالاً صحيحاً في حدود القيم والأخلاق وفي حدود التخطيط السديد لأصبحت من أغني أغنياء العالم ، فتقدمها ونماءها وازدهارها مصحوب بالقيم الأخلاق أولاً، وبالجد والسعي والعمل واستثمار الطاقات ثانياً ، فهذان ميزانان بهما ترقي الأمة وتتقدم. وبانعدامهما تتخلف وتصاب بانحطاط مادي وخلقي وكفي بالواقع المعاصر على ذلك شهيداً.
عباد الله: إن أجسام الناس ما هي إلا آلات يجب إعمالها وعدم تعطيلها وإلا دمرها العجز والخور والشلل، وصارت إلى الموت البطئ والاسترخاء والصدأ، وتحولت إلى أداة تعويق للحياة الاجتماعية ونموها، بدلاً من أن تكون أداة قوة ونماء وازدهار!!
الدعاء،،،،،،،،، وأقم الصلاة،،،،،،،،،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي